بعيدا عن خبث وتواطؤات الغرف المظلمة.. غربة الاختلاط ويسر الاندماج.

إعداد: محمد سالم الشافعي/ عبد الكبير اخشيشن : ونحن ننتظر في تلك النقطة المقفرة، بدا أن حظنا كان استثناء، وهو استثناء سنعرف فيما بعد أنه لم يكن طالع خير علينا، ففي هذا المساء البهيم من اليوم نفسه ستمر بنا شاحنة عسكرية من نوع انيموك ‪(Unimog)، كانت متوجهة إلى نفس المخيم الذي نقصده، وفي حوضها عرفنا لماذا على الإنسان أن يتعوذ من وعثاء السفر.

عشية ذلك اليوم ولمدة تمتد من الخامسة مساء حتى التاسعة ليلا، أمست تلك الشاحنة ترجنا رجا ثم ترمي بآخرنا على أولنا والعكس بالعكس حسب سرعتها والنتوءات التي تسير فوقها والمنعرجات التي تسلكها، وكانت عجلاتها العريضة تمطرنا بسحابة من الغبار يمدد الإنسان أصبعه فلا يراه خلالها، وظل حالنا على هذا النحو إلى أن رمتنا أخيرا، ألقت بنا، ونحن لا نعرف رؤوسنا من أرجلنا في مكان قيل لنا بأنه الإدارة العامة للمخيم.

كان المكان الذي رمتنا فيه تلك الشاحنة – والحمد لله أن بقي منا ما يرمى – هو المكان الذي يتوجب علينا أن نسجل فيه دخولنا، ومن حسن الحظ أن الشخص المداوم كان يعرف العائلات التي نبحث عنها، وكانت إحداها على بعد خطوات من المكان الذي نوجد به، بل إن الشخص المكلف بتسجيلنا تعرف على رفاقي من خلال أسماء العائلات.

وبعد أن سجل أسماءنا، اصطحبنا إلى أقرب تلك العائلات، حيث كانت خيمة الشيخ ولد محمد سعيد، وهو على صلة قرابة بالمجموعة. رحب بنا بحرارة حتى قبل أن يعرف صلة القرابة تلك، وكأن الرجل كان على علم بقدومنا، فقد بدا كل شيء جاهزا، وسواء تعلق الأمر بالشاي أو المشرب والأكل وحتى الملابس لإحداث تغيير على شكلنا المتعب، والذي كان قبل محن تلك الرحلة أزياء تقليدية نظيفة.
ومن مستملحات هذه اللحظة، هو أن ما بدا محرجا لمضيفنا وأجهده كثيرا، هو كمية الماء والشامبو التي كان تتطلبها عملية التخلص من كل غبار «لحمادة» الذي علق بشعر رأس كل واحد منا، بعد أن وصل طوله المسدل لدرجة تكفي لنسج خيمة، وأظن أنه في صباح اليوم الموالي وجد كل واحد فينا صعوبة في التعرف على صاحبه، بعد أن كان شكل كل واحد منا قبل، عمليات التنظيف، أشبه ما يكون بضب الصخور.

في مساء ذلك اليوم، خرجنا رفقة مضيفنا لزيارة بقية العائلات التي يرتبط أصدقائي بصلة قرابة بها، وفي كل مرة كان يتم تقديمنا لأفراد تلك العائلات، يتعرفون على الكل باستثنائي، فأشعر بعدم الارتياح لإحساسي بأني غريب بالرغم من الترحيب الذي سمعته من الكل وقرأته في قسمات وجوه الكل، والذي كنت أفسره كنوع من الشفقة، قبل أن أدرك أن الأمر جزء من مكونات الشخصية لهؤلاء الناس الذين سينسونني الأهل والأصحاب بكرمهم.

ومن المواقف التي ساعدتني على الاندماج وخففت عني ذلك الشعور بالغربة في محيطي العائلي الجديد، وفي مجتمع مازالت القبيلة رغم تحريمها رسميا هي المحدد الأساسي لمكانة الشخص، هو تعرفي على الأب الفاضل البخاري ولد آده رحمه الله، والذي ظل يحتفي بي بعد أن عرف أن جدي لأمي (اليدالي ولد أحمد تلمود) هو صديقهم الذي كان دائم الانتجاع إلى الصحراء خلال فصل الشتاء، وكان له الكثير من الأفضال عليهم، وكذلك تعرفي في مرحلة لاحقة على العالم الجليل محمد عبد القادر (حمه) ولد حيبلتي، والذي ما إن رمقني أول مرة حتى عرفني بالشبه مع عمي (محمد يحي ولد أكاه)، الذي قال إنه درس معه سنين طويلة في محضرة أهل محمد أحمد سالم الشهيرة.

بعد ما يقرب من أسبوع قضيناه في مخيم الداخلة محاطين بكل ترحيب من طرف تلك العائلات، قفلنا عائدين كما هو مفترض مع الطريق نفسه إلى الرابوني، ولكن هذه المرة في شاحنة أقل إزعاجا من السابقة، فقد كانت شاحنة من نوع جي أم سي ‪(GMC) المعروفة بثباتها وتحديها للطرق الوعرة، وكانت وهي تسير بنا، كأنما تقول لصاحبتنا السابقة «ليس كلما يرقص على أربع عجلات يعتبر شاحنة»، وبعد أقل من خمس ساعات أوصلتنا إلى وجهتنا دون أن ينظر أي منا إلى صاحبه ويخاله ضب حجارة، وجدنا في انتظارنا سيارة من نوع « لاندروفير» أقلتنا مباشرة إلى معسكر «12 أكتوبر» المقام على بعد 40 كيلومترا من الرابوني و17 كيلومترا من مخيم السمارة، وذلك من أجل أن نبدأ فترة التدريب العسكري.

 

محمد سالم الشافعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي من القرصنة