شكرا السيد ترامب

كدنا ننسى قضية اسمها فلسطين، أو ربما نسيناها قطعا في زحمة الأحداث التي عمت الشرق الأوسط والبلاد العربية من المحيط إلى الخليج، فالدماء التي سالت في طريق إسقاط الأنظمة الحاكمة في ليبيا وسوريا واليمن ومصر، فضلا عن بحيرة الدم الساخنة في العراق، كلها جعلت المواطن العربي البئيس يغرق في التفكير في البحث عن حلوله المعيشية في محيطه الذي تدرج على التقلص من القومية إلى الوطنية إلى الجهوية، وصولا إلى القبلية والمذهبية. وصار بعيدا كل البعد عن قضية قومية اسمها فلسطين أو قضية دينية اسمها الأقصى المبارك.

بضربة معلم كما يقول المغاربة، أو في لقطة ساحرة كما يقول المخرجون السينمائيون استطاع الفكر الصهيوني اللامع خلال الثلاثة عقود الأخيرة، أن ينقل القضية الفلسطينية، اعتبارا من مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع فلسطيني – إسرائيلي، ثم إلى صراع فلسطيني – فلسطيني بين حماس وفتح.

كما نجح بتفوق مدهش عام 2003 في ذبح عراق صدام حسين وجره بحبال دول عربية وإسلامية إلى المسلخة، وهو النظام الذي شكل حجر عثرة لفترة من الوقت في طريق إسرائيل لاستكمال مخططها بتصفية القضية الفلسطينية وطمس حقوق أهلها في الأرض والماء والهواء والمقدسات.

نجح الفكر الصهيوني الشديد الدهاء في عام 2011، بفضل تقارير وكيليكس في دفع الشعوب العربية الغبية إلى سحب سيوفها من الأغماد، والخروج عن بكرة أبيها لإسقاط حكامها الفاشيين والمجرمين، طمعا في اصطياد عصفورة اسمها “الحرية”، وسالت بذلك أودية من الدماء وشكلت بحارا ومحيطات في سوريا واليمن والعراق وليبيا ومصر، حتى اختفت آثار مجازر إسرائيل في غزة وقانا ودير ياسين والخليل وصبرا وشتيلا وراء حمام الدم الفائر في الموصل والفلوجة وبغداد وكركوك ودمشق والغوطة وحماة وحمص والرقة وعدن وصنعاء والقاهرة وطرابلس وبنغازي ومصراتة… وأصبح رسام الكاريكاتور العربي يقارن بلا حياء حجم المقابر التي خلفتها المجازر الإسرائيلية وهي بحجم صغير مقارنة بمقابر قتلى العرب والمسلمين في ما بينهم وقد ملأت الرحب حتى الأفق.

لم يكتف الفكر الصهيوني اللامع الشديد الانتباه بهذه الضربات أو بهذه اللقطات، بل كان يحتاج لاستخراج الزبدة من الدم، ويصور المسلمون والعرب من خلال تنظيم داعش – الذي تفنن الأمريكيون في صناعته – على أنهم وحوش غير قابلين للعيش إلى جانب المجتمعات المتنورة والمتحضرة، وأن وحشيتهم يمكن أن تنتقل من كهوف تورا بورا وتعبر صحاري العراق المتخلف، وتجتاز الحجاز المتحجر، وتقفز فوق جبال شمال إفريقيا المخيفة، وتصل في النهاية إلى بلاد الغرب المسالم والآمن، وتضرب بلا رحمة في شوارع نيس وباريس ولندن وستوكهولم وبرلين وأوتوا ونيويورك، ويصبح للإسلام تفسيرا واحدا هو الإرهاب والوحشية.

بعد كل ذلك يحين دور البطل ترامب في الخروج من خلف الستار مستلا سيف داوود ويقول عبارته الشهيرة “سأجتث الإسلام الإرهابي من على وجه الأرض”. ساعتها لم يعارضه أحد ولم يستطع حاكم مسلم من على وجه الأرض أن يقول له “ما هذا الكلام يا سيد ترامب، إنك تعلن حربا دينية في العالم؟“.

كيف يقولها زعيم وكل الزعماء العرب إما قتلى أو مسجونين أو رهائن في يد الولايات المتحدة الأمريكية!

لكن ترامب قال ما يعنيه فعلا ومضى في القول والتنفيذ، وعد الإسرائيليين بجعل القدس عاصمة أبدية لليهود، وهو ما يقوم به الآن، رغم معارضة كافة قيادات الدول، وقد اتخذت الولايات المتحدة التدابير الكافية لجر بقية دول العالم لحذو الطريق الأمريكي نفسه كما قال بنيامين نتانياهو ساعة بعد توقيع ترامب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لليهود.

ردود الفعل العربية والإسلامية لم تكن مفاجئة بالنسبة للسيد ترامب وللإسرائيليين، فردة الفعل الطبيعية لحيوان يجري السكين في عنقه هو التركل، والقادة العرب يتركلون الآن ولا يستطيعون فعل أي شيء باستثناء التنديد والشجب والاستعانة بالمظاهرات الشعبية لتبرير ركلاتهم في الهواء.

يبقى من كل ذلك أن السيد ترامب فعلا خيرا عندما أجهز على ملف القدس في عملية السلام الوهمية، والرد الحقيق الذي يحسب بلاد عربية أو مسلمة هو ظهور الأعلام الفلسطينية من جديد في شوارع العواصم العالمية في انتظار من عيد الحق لأصحابه.

شكرا السيد ترامب إنك منحت المسلمين فرصة للتذكر مجددا أن بيتا مقدسا موجودا رهن الاحتجاز خلف توقيعك الذي يشبه خطوط الزلزال على شاشة قياس الهزات الأرضية. عبد الهادي مزراري

 

محمد سالم الشافعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي من القرصنة