بعد مغامرات الوصول إلى «وهم الثورة والثوار» مرحلة التدريب العسكري.

إعداد: محمد سالم الشافعي و عبد الكبير اخشيشن

كان ذلك المعسكر يومها عبارة عن مجموعة من الخيام مقامة على أرض جرداء، وعلى طرفها توجد غرفة مبنية بالطين تستعمل مقرا للحراسة وكاستقبال للقادمين الجدد، فأنزلنا السائق عند تلك الغرفة ومنها كنا متشوقين للالتحاق بالمتدربين الذين كنا نراهم وهم يجوبون تلك الأرض المنبسطة ويقومون بحركات منسقة، وبين الفينة والأخرى يزلزلون الأرض بضرب أرجلهم عليها فيبعثون الحماسة في أنفسنا.

لم يطل تشوقنا كثيرا، ففي المساء فاجأنا شخص يحمل كرسيا وآلة حلاقة يدوية، وهو يأمرنا بأن نتبعه ثم وضع الكرسي في الهواء الطلق و(عينك ما تشوف إلا النور)، فقد بدأت آلة إبراهيم الحلاق تفعل الأفاعيل في شعرنا والريح تعصف به بعيدا، فتتحول جماجمنا في لمح البصر إلى ما يشبه الكلى قبل أن تشوى.

بعد أن مسح كل منا على رأسه وتأكد أن جمجمته أصبحت صعيدا جرزا، وضحكنا على بعضنا البعض، طلب منا إبراهيم الحلاق أن نتبعه إلى مكان ما، وبينما نحن سائرون خلفه ابتلعته الأرض فجأة، ومن المكان الذي اختفى فيه تطايرت نحونا مجموعة بذل عسكرية بنية اللون، تتبعها أحذية عسكرية وأحزمة يتلوها إبراهيم الذي ابتلعته الأرض، فعرفنا أن المكان هو عبارة عن مخزن مقام تحت الأرض، ولم أكن يومها أتصور أنه المكان الذي سيتم تعديله بعد سنين، ليصبح زنزانة أمضي فيها أتعس وأقسى أيام في حياتي، وأتعرض فيها لأبشع أنواع الظلم دون جريرة ارتكبتها، سوى أني كنت أقوم بكل ما يسند إلي من عمل بكل صدق وإخلاص، حافزي الوحيد في ذلك  قناعتي بأن ما أقوم به هو الصواب، وأنه سيأتي اليوم الذي أرى فيه جهدي أثمر شيئا غير الذي أثمر.

حين نبهنا صاحبنا – وكان رجلا قليل الكلام – بأن تلك الملابس والأحذية لا تناسب مقاساتنا لكبرها، رد علينا بأنها هي كل الموجود (بالحسانية: ألا ذاك الخالك)، وأتبع رده ذاك بلغة صارمة أن ألبسوها واتبعوني فامتثلنا للأمر، وكان منظرنا في تلك الملابس الفضفاضة أشبه ما يكون بمنظر المهرجين، وحين سرنا خلفه كانت مقدمة أحذيتنا لطولها تسبقنا بمسافة لتقول لمن هم أمامنا بأنا في الطريق إليهم، وبعد مسير قصير وكانت الشمس قد قاربت الغروب، أوصلنا إلى مكان آخر تحت الأرض استقبلنا فيه أشخاص أذكر منهم سيدي وكال الذي سنعرفه لاحقا مديرا للمعسكر نفسه، فاستقبلنا بوجه باسم وتحدث معنا بلطف وسألنا عدة أسئلة تتعلق بسفرنا وانطباعاتنا عن المخيم خلال الأيام التي قضيناها فيه، ثم أمر أحد الحاضرين معه أن يلحقنا الكتيبة السابعة، وأن يوزعنا على الخيام الخاصة بها، وكانت تلك الكتيبة هي سابع كتيبة في دفعة من المتدربين أطلق عليها اسم «دفعة الشهيد سعيد الصغير»، وكانت في معظمها تتألف من الشباب القادمين من موريتانيا.

تم ضم كل منا إلى مجموعة تختلف عن مجموعات الآخرين، وتم تزويده بما سموه العهدة وهي عبارة عن بطانيتين صغيرتين وفراش، وبعد أن استقر بي المقام مع مجموعتي، سألني قائدها إن كنت أدخن وحين أجبته بالإيجاب أعطاني أربعة أصابع من السجائر وأخبرني بأنها هي كل زادي من التبغ لمدة أربع وعشرين ساعة، ورغم صدمتي بالخبر فكان بعض جماعتي يحاول انتزاع «زادي» بطريقة شيطانية وهي تحذيري بأن المسؤولين سيعاقبونني إن اكتشفوا أنني أدخن لأن من هم في عمري لا يسمح لهم بالتدخين، وكانوا يعتمدون في تحذيرهم على أنه في تلك الفترة كان يوجد ضمن المتدربين مجموعات كبيرة من الأطفال يطلق عليهم اسم «الأشبال» معزولين لوحدهم ويمنع عليهم التدخين، ولأن جسمي كان نحيلا لدرجة أن البعض أطلق علي اسم «أ»، فقد كانوا يراهنون أنه سيتم تحويلي إلى أولئك الأطفال حتى أن أحدهم طلب مني مستجديا أن أعطيه تلك الأصابع الأربعة، بدل أن تصادر مني.

غير أن كل ذلك لم يجد نفعا معي، وكل ما كنت أفكر فيه هو الوسيلة التي سأثبت أنني راشد إن هم أرادوا فعلا تحويلي إلى الأشبال، خاصة أن كل وثائقنا تمت مصادرتها في المركز الذي تم التحقيق معنا فيه عند قدومنا، وكنت متفائلا بأني إن نجحت في إقناعهم برشدي فسأفوز بأربعة أصابع إضافية من السجائر يكون أمان ولد الخالص كان قد تسلمها فهو أصغر مني سنا، وبالتأكيد سيتم تحويله إلى الأشبال إن صدق ما سمعت.

 

محمد سالم الشافعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي من القرصنة