“البيظان” ومشكل الصحراء

مـرّ ما عرف بـ”المؤتمر الرابع عشر” لجبهة “البوليساريو” مرور الكرام، اجتماع على أرض جزائرية، وإعادة انتخاب نفس القيادة، وحضور نفس الوجوه من داعمين داخليين وخارجيين.. لا شيء جديد في المؤتمر كسابقه.. اللهم إلا إذا كان المؤتمر عقد هذا العام في فصل الشتاء.إن المنطقة على مقربة من مرور نصف قرن على هذا الصراع الذي فرضته البوليساريو، أو رعاتها الخارجيون على أدق تقدير  وأوحده. صراع أجهض مشروع الاتحاد المغاربي  وارتهن مصير المنطقة التي ما تزال تدفع ثمنه باهظا…فشل مشروع الحرب، ومن فشلوا في خيار المواجهة لم يذعنوا للواقع ويمتلكوا من الشجاعة ما يجعلهم يواجهون استحقاقات السلام و  بدائل المصالحة… “و إن جنحوا للسلم فاجنح لها”… “و الصلح خير”.لقد صارت “البوليساريو” جبهة انتفاعية لمجموعات أسرية، على مستوى معين. أما على مستوى اللعبة الأكبر فإن فشل الجبهة في الحرب، أفقد الحاضنة الجزائرية القدرة على خلق بديل، لأن البديل المنطقي والوحيد المعقول هو الانسحاب من “وكر المشاكل” والتأكد أن  “تعمير الصراع” والمشكل الصحراوي كله، لن يمكّن الجزائر من موطئ قدم على الأطلسي.. وإنما سيستنزفها أكثر، ولو لنصف قرن آخر.

إنه العناد..! لكن مع من و إلى متى؟

إن مشكل الصحراء أصبح اليوم يرد في الأحاديث أكثر من أي وقت مضى عند الحديث عن “أزمة البيظان” في منقطة الساحل العربي الإفريقي.إن أنصار “البوليساريو” يروجون ادعاءات تفيد أن “الصحراء” هي دولة البيظان المستقبلية.. وأنه من أجل ذلك لا بدّ من تحريرها… لا بدّ من دولة مستقلة خاصة بـ”البيظان”.

يذهبون أبعد من ذلك حين يقولون إن “السود” ابتلعوا موريتانيا  التي لم تعد دولة للبيظان.. هذا الطرح يتجاوز درجة السخافة و اللؤم، بل الجريمة حين يصل مرحلة الفصل بين البيظان و الحراطين.إن انفصال البيظان عن الحراطين هو أمر مروع لمستقبل البلد و مستقبل شريحة الحراطين  ذات الارتباط الذري بجذورها العربية دما وثقافة..إنه تخل غير حضاري عن جزء من أسرتنا الشخصية، جزء من تراثنا، تاريخنا، نسبنا، ثقافتنا، وجداننا.. في هذا الفضاء الصحراوي.إن شريحة “الحراطين” جزء يستحيل أن يتجزأ من وجدان الإنسان العربي في هذه الصحراء الممتدة من واد نون إلى العراق..أما مشكل الزنوج  الأفارقة الموريتانيين، فهو مشكل لا يحتاج إلا إلى قليل من العدالة، قليل من العدالة  والصراحة مع الأهل وشركاء الجغرافيا والتاريخ.إن الفضاء “البيظاني” موزع بين تسع دول عربية وإفريقية في منطقة الساحل.. لكن مكْمن “صناعة القرار” في هذا “الفضاء الشرائحي” هو ثلاث دول فقط (موريتانيا، المغرب، الجزائر).لقد كان دور هذا الفضاء وعلاقاته التأسيسية معروفة.تاريخيا، كان “البيظان” مصدر الإلهام الفعلي لما آل إليه الشكل الدولتي والروحي للغرب العربي الإفريقي.. حسنا، كيف؟

أولا، تمكن “البيظان” من تأسيس أول دولة مركزية في منطقة المغرب العربي (دولة المرابطين).

الطريف أن هذه الدولة قامت بأول حرب قارية من الصحراء (نجدة عرب الأندلس.. قبل 900 عام).. ففي 23 أكتوبر 1086م قاد يوسف  بن تاشفين الصنهاجي اللمتوني أول معركة كبيرة شهدتها شبه الجزيرة الأيبيرية في العصور الوسطى، وإحدى أبرز المعارك الكبرى في التاريخ الإسلامي. واللافت هنا من ما لا يتم ذكره كثيرا هو أن المرابطين لم ينتصروا على جيش إسباني فحسب، و إنما انتصروا على جيش أوروبي كبير  احتشد من أرجاء أوروبا، وإن كان بقيادة إسبانية.

 ثانيا، نحو الجنوب بسط “البيظان” نفوذهم الروحي فاتحين بلدان المنطقة دينيا و روحيا دون الحاجة لحروب. و هنا تجدر الإشادة بالدور الحضاري و الدعوي الإسلامي البارز الذي اضطلع به الإمام نصر الدين بالغرب الإفريقي  المسيحي الوثني آنذاك.بين النفوذ الروحي والعامل الإداري المؤسسي كان طبيعيا أن يبقى المجال الصحراوي “مجالا رعويا”.. إلى حين شاء الاستعمار أنْ يقطع هذا المد الديني و الروحي و الثقافي المزعزع لأركانه و كيانه  و يربط بين مستعمراته الشمالية و الجنوبية.لكن، وفي هذا الفضاء، سنجد أن ملوك المغرب (المنحدرين منْ أصول بيظانية من جهة الأمهات)، شكلوا مرجعية حكم للبيظان عبر القرون اللاحقة للتأسيس الدولتي الأول.ليس هناك حاجة لنقاش هذا المعطى التاريخي.. كان “البيظان” جزء من المغرب وإن كان جزء له خصوصيته الاجتماعية والثقافية بفعل سكناهم للصحراء المفتوحة.هناك “شرعية مغربية” على فضاء “البيظان” تتجاوز العلاقة التبعية التاريخية والجغرافية إلى “علاقة الدم” بين ملوك المغرب وأخوالهم البيظان وقبل ذلك بني عموتهم (قرشيون جزما).

ليست هنالك أي شرعية منازعة في هذا المجال.إنما لندع الآن سجلات التاريخ في فعلها الماضي.. فغبار سجلات التاريخ ـ خلافا لطبيعة الغبارـ  يوضح الرؤية ولا يطمر عليها.ولنسألَ عن المستقبل..! و لنتكلم عبر بعض المعطيات عن المشكل  العرقي  و الشرائحي الذي يهدد كياننا بالتفكك و الاضمحلال:المشكل العرقي

  • كانت الإحصاءات التي أجريت غداة الاستقلال للسكان الموريتانيين، منها ما هو تحت إشراف الأمم المتحدة، قد بينت المعطيات التالية: عدد السكان 1.5 مليون نسمة. البيظان (و لم يفرق بين بيظان و حراطين): 80%،  الزنوج الأفارقة (البولار، السوننكي ، الولف، بمبارا): 20% (1) ، (2)
  • في أول جلسة وطنية لتحديد هوية الدولة، بدأت رحلة الإقصاء.. فحسم المستعمر الخلاف وأطلق على الكيان الخديج “الجمهورية الإسلامية الموريتانية”.
  • بعدها بفترة وجيزة رفض أعوان المستعمر وموظفوه حق الأغلبية في التدريس بلغتها العربية. لغة التواصل قبل الاستعمار.
  • ما حدث في 1966، تكرر مرات، معززا بتطرف موجات المهاجرين ، وأصبحت البلاد على شفى حرب أهلية بداية الثمانينات مع تشكيل جبهة عسكرية (أفلام)، وهي التي تشكلت في حاضنة خارجية معروفة.
  • تم جر البلاد إلى مأساة 1989 العرقية، بقرار خارجي اتخذه مجرد فصيل معارض في دولة مجاورة. بسبب ضعف جهاز الدولة، كان البلد يبدو مستباحا و كان أي شخص حتى من وزن رئيس حزب سنغالي معارض قادر على فعل ما فعل، بل وأكثر من ذلك لولا التدخل العراقي الحاسم وقتها.
  • وضعت الحرب أوزارها بين الجارين الشقيقين بعد أن حسم السلاح العراقي ميزان القوة لصالح موريتانيا – دون اللجوء لطلقة نارية واحدة-  .
  • إذا كانت أحداث 1989 قد بدأت شرارتها بمشكل بين مواطنين زنوج من السنغال وموريتانيا، لتتحول بسرعة خاطفة إلى أحداث عرقية بين العرب والزنوج، ليتم قطع العلاقات بين السنغال وموريتانيا، ثم تبدأ الدولتان المفاوضات لتسوية الأزمة بناء على التعويض وحق العودة، فإن هذه المفاوضات تحولت إلى إعفاء الجانب السنغالي نهائيا من المسؤولية، و إبقاء موريتانيا وحدها في قفص الإدانة وتحميلها  لوحدها الفاتورة كاملة في الملف.. كيف خرجت السنغال ب”يد بيضاء بريئة”، لتبقى موريتانيا وحيدة في ساحة الجريمة؟  الجواب بديهي… لأن للسنغال دولة ترعى و تحمي مصالح بلدها و شعبها…
  • من المهم الإشارة إلى نقطة أهملها الكثيرون: بعد نحو ثلاثين عاما من القتل والتسفير والتهجير المتبادل ندفع فاتورته إلى اليوم، فإننا منذ ذلك التاريخ، لم نتفاوض مع مواطنينا الزنوج الأصليين مفاوضات جدية لتجاوز هذا الملف، فكل محطات التسوية اللاحقة (1991، 1997، 2007، 2008، 2010) تمت بالمفاوضة مع السنغال، وتحديدا في دكار وبشهود من المجتمع الدولي.

لقد اعترف صانع القرار الموريتاني رسميا بـ”ولي أمر” خارجي على شؤون جزء لا يتجزأ من مواطنينا وشعبنا. و”ولي الأمر” هذا يحرك هذا الملف ساعة شاء، وحيثما كانت مصلحته.. حتى ولو كان في الحصول على الإذن لزورق صيد في مياهنا الإقليمية. عام 2010 بعد التظاهرات الدامية لحركة “لا تلمس جنسيتي” وقيامها بحرق الرموز الوطنية، لم تفاوض الحكومة الموريتانية مواطنيها، بل أرسلت وزير النقل إلى السنغال الذي وقع اتفاقية بعودة 6000 عائد، وتم الاستسلام للسنغال في ملف النقل البري، وكذلك فعلت وزارة الصيد حين لوحت الحركة بالتحرك لاحقا. إن كل اللقاءات والحوارات والمعالجات لهذا المشكل لن تكون ذات جدوى، ما دمنا نعبر النهر لنحاور دولة أخرى على شؤون مواطنينا ـ حتى لو كانت دولة شقيقة و حبيبة إلى قلوبنا ـ.. بدل محاورتهم هم.. والاستجابة لكل مطلب مشروع لديهم. الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا

 

 

محمد سالم الشافعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي من القرصنة